ذكرياتى مع الطربوشقبل ثورة يوليو 1952 كان الطربوش يزين رؤوس الطلبة الصغار ، لا أتذكر أننى لبست طربوشا
فى سنواتى الدراسية ، لكنى عاصرته بالطبع عندما كنت صغيرا ، كان يلبسه كبراؤنا أو زعماء
مدرستنا الإعدادية فى هذه المدينة البعيدة عن قريتنا فى ريف الدقهلية التى مازلت رغم تغير
الطباع والظروف والحياة فيها أحبها فلقد عشت فيها طفولتى وشبابى ، كنت من القلائل الذى
تعلموا من شباب البلد فلم يكن التعليم متاحا فى الريف إلا للقادرين وليس كهذه الأيام التى يوجد
فى بلدنا التى لم يكن بها غير مدرسة إلزامية واحدة ، صار الآن بها كل أنواع المدارس والمراحل
أيضا وصار طالب العلم يذهب الى المدرسة بعد أن يسمع صوت جرس المدرسة يدق وليس على
أيامنا التى كنا نسافر ويضيع يومنا فى السفر ذهابا وإيابا .
كنا أطفالا لكنا على درجة رجال نعيش عصر الملكية ، لم يكن هناك هذا الإعلام ولم يكن هناك
تلفزيون ومن عنده راديو يا هناه ، حتى الراديو الترانزستور لم نره إلا بعد حرب اليمن وعودة الجنود
من هناك أو عن طريق التهريب من غزة التى كانت مصرية ، وكأطفال لم نكن نعرف شيئا عن فساد
الملك وحاشيته ، ولم نكن نعرف عن حرب 48 شيئا لكننى أذكر أنه بعد نكبة الحرب والهزيمة ، كان
هناك قطار الرحمة الذى كان يمر بالبلاد ليجمع الملابس لأهل فلسطين ، لكننا كأطفال كنا نفرح
عندما نسمع طلبة الثانوى يزأرون فى الشارع ويهتفون ضد الملك ، كان الطلبة الكبار يمرون على
المدارس ويقتحمون أبوابها لنخرج معهم ونسير فى الشوارع لنهتف ضد الملك ونمر على مدارس
أخرى لتخرج معنا ثم نعود آخر النهار لبيوتنا .
كنا كأطفال نفرح فلقد ضاع اليوم الدراسى ، وكنا مبهورين بهذا الفتى الممشوق القوام الذى يعتلى
الأكتاف ويهتف بدون الميكرفون الذى نراه الآن مع الباعة الجائلين فى الشوارع أو مع الألتراس
فى الملاعب أو مع الشباب فى الميادين ، كنا نردد خلفه بصوتنا الطفولى ضد الفساد والملك ، لم تكن
هناك فى هذا الوقت قبضة الشرطة الحديدية ولا أحد يقبض عليه ، وكنا نجوب الشوارع إلى أن تبح
أصواتنا ونعود الى منازلنا ، ونظل ننتظر الى اليوم الذى نسمع فيه هذه الأصوات القادمة من بعيد
وتقتحم علينا حصة هذا المدرس الغلس إنه مدرس الجغرافيا الذى كان خشنا فى معاملته
ونكره حصته بل ونكره وجوده من الأصل .
كان كبارنا فى المرحلة الثانوية يلبسون الطرابيش وكنا نتطلع إليهم وننظر لهم بإحترام وتقدير أتذكر
أن بعضهم عندما كان يلعب الكرة فى الفسحة أو قبل اليوم الدراسى يتخلى عن لبس الطربوش ويعطيه
لأحدنا ليحمله ويكون أمانة معه وعهدة شخصية ليحافظ عليه ، كانت فرصة لا تعوض فالطربوش معى
ولبسة فرصة للعياقة والمنظرة والبغددة التى يحسدنى عليها أقرانى ، لا أنكر أننا كنا نمشى فى المظاهرات
لا نعرف الهدف منها ،لكننا كنا نفرح فقط لضياع اليوم الدراسى والإنطلاق فى الشارع ، الى أن قامت
ثورة يوليو 1952 فتم إلغاء لبس الطرابيش وهكذا تم حرماننا من لبسه عندما نكبر ، كما صارت تجارة
الطرابيش فى خبر كان حيث بارت وصارت مجرد ذكرى ونراها فقط فى الأفلام القديمة أوفى الحكايات
الجديدة عن الزمن القديم ، أتذكر أن آخر مرة رأيت فيها الطربوش قبل الثورة عندما كنا نلعب الكرة أمام
المدرسة قبل بدأ اليوم الدراسى ولأننا لم نجد طوبا للمرمى فقد تم وضع حقائبنا التى كانت فى ذلك
الوقت من القماش وفوقها وضعنا الطرابيش الخاصة بكبارنا .
كانت الكرة الطائشة كلما تصطدم بالطربوش تقذفه بعيدا وتجعله يتلوى ويتدحرج على الأرض ، وكنا
نعيده الى مكانه ثم يتكرر هذا المنظر كثيرا الى أن يدق الجرس فيأخذ كل طربوشه ويروح ينظفه حتى
لا يتعرض للعقاب حيث كان يتم التفتيش على نظافة الطرابيش والأحذية وطول الأظافر ونظافة الأيدى ، وكان
هناك ماسح الأحذية الذى يجلس بعيدا عن الطابور ليمسح الأحذية قبل الجرس ويرسل له من يتم عقابه ليدفع
التعريفة التى كانت مبلغا كبيرا ثمنا لمسح الحذاء. ورغم إلغاء لبس الطربوش و لبس الجلابية فى
العمل فإن بعد كبار القوم واصلوا لبس الطربوش ولم يتخلوا عن العلاقة الحميمة معه وإستمروا فى لبسه حتى
وفاتهم كالشيخ أحمد الصباحى زعيم حزب الأمة الذى كان بينه وبين الطربوش علاقة حميمة ، وكان يواظب
على لبسه ، بل كنت كلما أراه عندما يأتى إلينا فى العمل أنظر إليه بإحترام وتقدير فبينى وبينك الطربوش يعطى
هيبة كبيرة للابسة وخاصة هذا الشيخ المهاب الذى كان فد تعدى التسعين .
كان أبى يلبس العمة ، وكان حريصا على أن تكون مهندمة ، وكان يرسلنى للشيخ أحمد أبو جاد صاحب
الكتَاب الموجود فى حارتنا الذى كان رجلا طيبا ويتقن قلفطة العمة ، وكنت أجلس بجوارة على الكنبة حتى
ينتهى من هذه القلفطة ، وكان محظورا على أن ألهو وأنا عائد من هذه المهمة التى كنت أحصل على مكافأة
قدرها تعريفة من أجلها وكنت ممنوع أن أشوط مثلا طوبة فى الطريق كما هى عادتى ، ولابد أن تكون يدى
مغسولتين حتى لا تتسخ العمة التى تزين رأس أبى الذى كنت أحبه ويحبنى جدا وإفتقدته وأنا إبن العاشرة . آخر مرة رأيت فيها طربوشا كان يعلو رأس المطرب الشعبى محمد طه رحمه الله حيث كان حريصا على
إرتدائه فى غدوة ورواحه وفى حفلاته الغنائية وحفلات أضواء المدينة التى لم تستمر للأسف فلقد كانت
فرصة لإكتشاف المواهب الفنية الجديدة ، وجدير بالذكر أن العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ هو نتاج
هذه الحفلات هو وغيره من كبار المطربين الذين إحتلوا الساحة الفنية الغنائية فى ذلك الوقت أى مابعد
ثورة يوليو 1952 ومازالوا فى قلوبنا بل ونحفظ كلمات أغانيهم وليس كهذه الأغنيات الحالية التى
تطير كالسبرتو بمجرد الإنتهاء منها ، رحم الله الطربوش ولابسى الطرابيش والذى كان له ولهم شنة
ورنة ، ورحم الله أبى الذى إفتقدته .